استعادة درس الوعي التاريخي بالأمة: تجديد الوحدة الوطنية
بقلم: نبيل عبدالفتاح |
١٧ ديسمبر ٢٠١٠
بدو أن الحيرة هي سيدة البدايات عند معالجة القضايا القومية
الرئيسية التي تواجه بلادنا في هذه اللحظة الهامة والحرجة والمتوترة
والمحتقنة من حياتنا! نعم إنها الحيرة المحمولة.
علي الخوف الفردي للكاتب من مآلات تطور بعض الملفات السياسية والاجتماعية
والثقافية التي باتت مركبة وتتعقد بمضي الوقت لفرط إدمان بعضهم إعادة إنتاج
تصورات وأداءات يثبت بين الحين والآخر فشلها أو نجاحها الوقتي والظرفي
الذي يحمل في أعطافه التبدد أو التبخر لأنه لا يعدو أن يكون مسكنا طارئا
لألم عضال يكمن في الأنسجة الاجتماعية والدينية والسياسية التي عاشت عليها
الأمة منذ نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي وحتي الآن.
ولم يهتم أحد بمعالجات في العمق للمرض الذي ينتشر في الجسم الرمزي
والاجتماعي, بينما الوهن والتفكك يتمدد وتتسارع وتائره دونما فحص شديد
للأمراض, وما هيسياسات واستراتيجيات العلاج وخرائط الطريق لإعادة تجديد
دماء االوحدة الوطنيةب والأحري التكامل الوطني بين أبناء الأمة المصرية
الحديثة.
الحيرة تبدو قرينة الخوف ومحمولاته لأننا وآخرين وعلي مدي أكثر من ثلاثين
عاما ويزيد, ننبه إلي طبيعة المرض وأعراضه ومخاطره, ولم يقتصر الأمر
علي ذلك, وإنما امتد إلي تقديم تصورات للعلاج تتسم بالتدرج والتوازن
والموضوعية وهدوء الأعصاب حتي لا تستثار الصفوة بالغة التميز من المفكرين
وقلة قليلة جدا من االسياسيينب, من بعض أشكال الأحتقان والعنف ومظاهر
الاستثارة التي يقوم بها بين الحين والآخر بعض الغلاة من رجال الدين علي
اختلاف أديانهم ومذاهبهم, أو البعض الآخر من محترفي الإثارة السياسية
والطائفية كي يجعلوا من أنفسهم نجوما لامعة وسط غالب أبناء دياناتهم أو
مذاهبهم, وليحققوا مصالحهم من خلال خطابات زاعقة ومتشددة بل ومتعصبة ترمي
إلي التعبئة والحشد وتوليد الغضب شبه الجماعي المنفلت من أية ضوابط!
والغريب والمثير في الأمر أن ما قدمه بعض العقلاء من المفكرين من آراء في
مسألة إعادة تأسيس وتجديد الوحدة الوطنية, لم يؤبه به من بعضهم, في
الأطر الحزبية الرسمية أو في إطار القوي المحجوبة عن الشرعية, أو في بعض
الدوائر الإسلامية عموما والسياسية علي وجه الخصوص. لم يقتصر الأمر علي
هذا, وإنما شمل أيضا بعض الأطراف داخل المؤسسات الدينية المسيحية التي
تركزت اهتماماتها علي مد نفوذ بعض قياداتها علي المواطنين المصريين الأقباط
وتمثيلهم في المجال العام السياسي كنتاج لميراث من الاستبعاد السياسي لهم
ومن ثم عزوفهم عن المشاركة السياسية الفعالة في المؤسسات القومية, وفي
إطار المنظمات النقابية والمهنية, علي الرغم من كونهم قوة ديناميكية
وحيوية وسط المهن الطبية والهندسية والقانونية والعلمية.. إلخ!
إن ما يستثير الحيرة المحمولة علي الخوف لدينا هو تزايد وتائر التحول نحو
الطائفية والعنف في الحياة اليومية, ونذر من بوادر العزلة النفسية شبه
الجماعية بين المواطنين علي أساس الانتماء الديني, وهو أمر طارئ علي
الجسد التاريخي لمصر الحديثة والمعاصرة منذ تكوين الدولة/ الأمة بالمعاني
والدلالات الحداثية والتحديثية علي النمط الغربي, وليس وفق المعني
الديني الذي يحاول بعضهم هنا وهناك إشاعته وتسييده لكسر وحدة الأمة
وتجانسها وتفاعلها علي أسس ومعايير تعلو علي الروابط الأولية.
إن الأمة الحديثة هي نتاج جهود أجيال وراء أخري من رجالات ونساء مصر الكبار
من المفكرين والمثقفين ورجال السياسة والإدارة الذين وضعوا شعار مصر
للمصريين رائدا لعملهم الفكري والسياسي والإداري والتقني في بناء الدولة
الحديثة ومؤسساتها وهندساتها القانونية والإدارية والسياسية. أدركوا أن
الأهم.. الأهم هو إنتاج الأمة الواحدة وتأسيس رأسمالها الرمزي والثقافي
والسياسي والاجتماعي, حول مصر وتاريخها المديد والمتفرد.. مصر الوطن,
والجغرافيا السياسية المستمرة والراسخة والتراكم التاريخي لروح الشعب
الواحد, المتعدد.
استطاعت قلة من الصفوة المختارة من مفكري هذا البلد علي اختلاف أديانهم
ومذاهبهم وانتماءاتهم الاجتماعية والسياسية في بحثها التاريخي العميق أن
تتنبه إلي أن مصر وروحها الوثابة لم تكن قط محض عرقية, لأنها تعلم وتعرف
أن عرقية مصر وشعبها يقلل من وزنها وتاريخها ورسالتها بين الأمم. إن
الخطاب عن عرقية ما لأي شعب هو أقرب إلي المنطق العنصري والشوفيني, وهذا
شيء ومحبة الوطن/ الأمة/ التاريخ شيء آخر تماما, لأن الخطاب العلمي
المعاصر أثبت بيقين خطأ دعوة النقاء العرقي أو اللغات التي تطورت بمعزل عن
غيرها من اللغات الأخري بما فيها اللغات التي سادت في الجماعات الأولي في
مفتتح التاريخ الإنساني. من هنا أدركت صفوة الألباب المصرية أن الرأسمال
الثقافي التاريخي والديني المصري تأسس علي التعددية وعلي تنوع المصادر
والأعراق, وأن النموذج المصري التاريخي يحمل في آهابه التعدد والتعايش
والتفاعل, والإنتاج الاجتماعي والرمزي المشترك, أيا كانت المشاكل وأيا
كان ديانة أو مذهب أو عرق من يحكم, لأنهم جاءوا وذهبوا! وبقيت مصر
وشعبها الواحد في تعدده. من هنا كان وعي الصفوة اللامعة من مفكري وبناة
الدولة الحديثة, أن مصر أكبر من الأحادية والرأي الواحد أيا كان مصدره,
ومن الحاكم أو أية قوة أخري في البلاد, لأن الأمة المصرية هي أساس
الشرعية والحكم, وهي التي تعطي تفويضها لمن يتحدث باسمها, ومن يعبر عن
توقها العارم للتحرر من الاستعمار الغربي وتحقيق الاستقلال مقرونا بالتقدم
والحرية والحداثة والتحديث وبناء المؤسسات السياسية والدستورية.
لم يكن هذا التوجه محمولا علي الأوهام أو الأساطير, وإنما كان يتأسس علي
أن مصر والمصريين ليسوا محض جماعة أولية أو دينية أو مذهبية لا تاريخ
لها, أو ذات تاريخ محدود وتحتاج إلي استعارة نموذج للتقدم السياسي أو
الاجتماعي أو القانوني علي النمط الأوروبي.
لا.. إنما كان ثمة معرفة تاريخية ووعي سياسي ويقين لدي مفكريها الكبار أن
مصر بعراقتها التاريخية وتجاربها الضارية والصعبة عبر الزمن, شكلت مخزون
خبرات بالغ الاستثنائية في مواجهة الطغيان والطغاة والغزاة والفقر والجوع
وعاديات الزمن وتقلبات موازين القوي في إقليمها وعالمها. من هنا كان
إيمان آباء الحداثة والإصلاح وأبنائهم وأحفادهم علي تعددهم وقلتهم, بأن
تكوين الأمة الحديثة, هو مجموعة عمليات تاريخية وتفاعلات سوسيو ثقافية,
وسياسية واقتصادية, من هنا كان رائدهم الرئيسي هو أن الأمة الحديثة هي
تعبير عن هندسات سياسية ودستورية وقانونية ورمزية حولها, تصوغ المشترك
المدني المصري الذي يحرك جميع أبناء مصر في إطار من المساواة والمواطنة
والحقوق والحريات المدنية في إطار المؤسسات السياسية والمدنية والمجتمع
المدنيب حول الرأسمال المدني الوطني.
من هنا تتمدد الحيرة والخوف في الوجدان الشخصي وشبه الجماعي في هذه اللحظة
التي تتحول فيها الأخطاء البيروقراطية إلي مشاكل طائفية, والعنف اليومي
ووقائعه إلي أحداث تزيد من تعقد المشكلات التي تمس وحدتنا كأمة حديثة حول
الدولة/ الأمة.
نحتاج إلي قدر كبير من الشجاعة واليقظة وتغليب روح الوطنية المصرية ودولة
القانون التي كانت تسود عملنا الوطني وروحنا الدينية المتعددة في وحدتها
حول الأمة والدولة.
نحتاج إلي التصدي المشترك للغلاة, والمسئولية هنا تقع علي الأغلبية
أولا, وإلي ضرورة فتح ملفات الوحدة الوطنية وغيرها في هدوء وموضوعية
وعقلانية بلا تشنج وبلا مغالاة أو تهور, وهو أمر يقتضي التصدي لبعض
الغلاة علي الجانبين الذين يريدون بناء مكانة وشهرة وزيوع علي اجثة الوحدة
الوطنيةب, مقابل حضور إعلامي, أو تمويل من هنا أو هناك! ثمة احتياج
عميق وضروري واستثنائي لاستعادة روح مصر للمصريين التاريخية لأن وحدة الأمة
والدولة, هي إحدي ركائز استعادة دورنا ورسالتنا الإنسانية, لسنا محض
نشيد وعلم وقمع وحاكم, مصر أكبر وأعظم في هذه المنطقة وفي عالمها بلا
مبالغة!
تجديد وحدتنا الوطنية حول المواطنة والحرية الدينية وعدم التمييز هو جزء من
مشروع تاريخي جديد للنهضة والحداثة العليا ووفق أفق إنساني عريض, إن
أهمية هذا التوجه تكمن في أنه سيكون رد مصر التاريخي علي عمليات التفكك
وتشظي الدول علي أسس عرقية ودينية وقومية ولغوية.. إلخ. أنها مرحلة
تقرير مصائر دول وقادة وشعوب تحمل معها مخاطر عاتية لا يستهان بها, ولا
نملك إزاءها سوي تجديد وحدتنا الوطنية حول الأمة الواحدة المتعددة ودولتنا
الحديثة. من هنا أهمية الدور التاريخي والوطني للإمام الأكبر د. أحمد
الطيب والبابا شنودة وبعض كبار الأساقفة كالأنبا موسي وآخرين كدعاة بارزين
ورفيعي القدر والمكانة لوحدة الأمة في تعددها, ومن ثم دورهم في تهدئة
الخواطر المهتاجة في إطار الحوار الوطني بين المصريين جميعا, لهم جميعا
كل الاحترام ولمصر السلامة والتقدم والازدهار. كل عام وأخوتنا في الوطن
في كل خير. وسعادة.
نقلاً عن الاهرام